آيات الحج .. في رؤية جهابذة المفسرين
آيات الحج .. في رؤية جهابذة المفسرين
الكـاتب : خالد سعد النجار
المختار الإسلامي
تزخر (آيات الحج) في كتاب ربنا العظيم بالعديد من الروائع التشريعية، والمعاني الإيمانية، وفي نفس الوقت أثيرت حولها عدد من الإشكالات التي تصدى لها مفسرينا -رحمة الله عليهم-، فأزالوا ما علق بها من غبش، وأصلوا منها أصولاً فقهية تتناغم مع روح الشريعة الإسلامية، حتى غدت تلك الإشكالات فرصة عظيمة لبيان روائع الشريعة، وبراعة مفسرينا الأجلاء الذين تباروا في خدمة هذا الدين، وبيان روعة كتاب رب العالمين.
- قال -تعالى-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
والاستطاعة وردت مطلقة، وفسرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بالزاد والراحلة، لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها، فإن المريض، والخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزمن، وكل من تعذر عليه والوصول، فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج، وإن كان واجداً للزاد والراحلة (أحكام القرآن للكيا الهراسى: 2/11).
وللعلماء في تفسير "السبيل" أقوال اختلفت ألفاظها، واتحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتًا في كتب التفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدًا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: "السبيل القدرة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم". واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: "إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه"، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة. (التحرير والتنوير: 3/167).
- وقال -تعالى-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
قال ابن كثير: "قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيًا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبًا، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم.."، وعن ابن عباس، قال: "ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيًا؛ لأن الله يقول: {{c}{c}يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ{c}{c}}" [الحج: 27].. والذي عليه الأكثرون: أن الحج راكبًا أفضل، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه حج راكبًا مع كمال قوته -صلى الله عليه وسلم-. (تفسير ابن كثير: 5/414 بتصرف).
قال الشنقيطي: المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي.
وضابطه: أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها، ولكنه وقع متعلقًا بعبادة بأن وقع فيها، أو في وسيلتها كالركوب في الحج، فإن ركوبه -صلى الله عليه وسلم- في حجه محتمل للجبلة، لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب، كما كان يركب -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب، بل لاقتضاء الجبلة إياه.
ومحتمل للشرعي لأنه -صلى الله عليه وسلم- فعله في حال تلبسه بالحج وقال: «خذوا عني مناسككم» (صحيح الجامع).
ومن فروع هذه المسألة: جلسة الاستراحة في الصلاة، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير الذي ذهب فيها إلى صلاة العيد.
والضجعة على الشق الأيمن بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ودخول مكة من كداء بالفتح والمد، والخروج من كدى بالضم والقصر.
والنزول بالمحصب بعد النفر من مِنًى ونحو ذلك.. ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم لاحتمالها للجبلي والتشريعي.
ومشهور مذهب مالك: أن الركوب في الحج أفضل، إلا في الطواف والسعي، فالمشي فيهما واجب. وقال سند واللخمي من المالكية: "إن المشي أفضل للمشقة، وركوبه -صلى الله عليه وسلم- جبلي لا تشريعي".
وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي، هو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما (أضواء البيان: 4/268 بتصرف). وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي: {يَأْتُوكَ..} [الحج: 27] فالجميع حريص على أداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشيًا (تفسير الشعراوي: 1/6021).
وعن مالك كراهية السفر في البحر للحج إلا لمن لا يجد طريقًا غيره كأهل الأندلس، واحتج بأن الله -تعالى- قال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولم أجد للبحر ذكرًا.
قال الشيخ ابن عطية: هذا تأنيس من مالك، وليست الآية بالتي تقتضي سقوط سفر البحر.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ناس من أمتي عرضوا علي، غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر» (رواه البخاري)، وهل الجهاد إلا عبادة كالحج، وكره مالك للمرأة السفر في البحر لأنه كشفة لها، وكل هذا إذا كانت السلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البر إلا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار. (التحرير والتنوير: 3/167).
خاصة وأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب، فذكر -تعالى- ما يتوصل به إليها. (البحر المحيط: 8/224)
- وقال -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
أي وقت الحج أشهر معلومات، وهي: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. (تفسير الخازن: 1/180)، قال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة.. واحتج النخعي بقوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] إذ جعل جميع مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج، بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيؤقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة. (التحرير والتنوير: 1/555).
قال ابن عاشور: واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير الكشاف، وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم، وقال: "من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل" فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلاً: بماذا فسرت قوله -تعالى-: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]؟ وأنه وجم لها. وأنا أحسب -إن صحت هذه الحكاية- أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج، ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال، فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى. (التحرير والتنوير: 1/557).
وقوله -تعالى-: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة، وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح، كلبسه الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن، لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة.( تفسير البيضاوي: 1/482).
- وقال -تعالى-: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى، فيكون متحللاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين:
الأول: أن الآية الكريمة التي هي قوله -تعالى-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، نزلت في صد المشركين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء. وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو، الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه؛ وروي عن مالك -رحمه الله- أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعية، وهو خلاف قول الجمهور.. وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى، وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز.
الأمر الثاني: ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في (مسنده)، والبيهقي عن ابن عباس أنه قال: "لا حصر إلا حصر العدو" (أضواء البيان: 1/77 بتصرف).
ومعنى الآيات: {{c}{c}وأتموا الحج والعمرة لله{c}{c}} أدوهما بحقوقهما: {{c}{c}فإن أُحصِرتم{c}{c}} منعتم عن إتمامها بعدو: {{c}{c}فما استيسر{c}{c}} تيسر: {{c}{c}من الهدي{c}{c}} عليكم وهو شاة: {{c}{c}ولا تحلقوا رؤوسكم{c}{c}} أي لا تتحللوا: {{c}{c}حتى يبلغ الهدي{c}{c}} المذكور: {{c}{c}محله{c}{c}} حيث يحل ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويُفَرَّق على مساكينه ويحلق وبه يحصل التحلل: {{c}{c}فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه{c}{c}} كقمل وصداع فحلق في الإحرام: {{c}{c}ففدية{c}{c}} عليه: {{c}{c}من صيام{c}{c}} الثلاثة أيام: {{c}{c}أو صدقة{c}{c}} بثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين: {{c}أو نسك} أي ذبح شاة و (أو) للتخيير وألحق به من حلق لغير عذر لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره: {فإذا أمنتم} العدو بأن ذهب أو لم يكن: {فمن تمتع} استمتع: {بالعمرة} أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام: {إلى الحج} أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره: {فما استيسر} تيسر: {من الهدي} عليه وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به والأفضل يوم النحر: {فمن لم يجد} الهدي لفقده أو فقد ثمنه: {فصيام} أي فعليه صيام: {ثلاثة أيام في الحج} أي في حال الإحرام به، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي: {وسبعة إذا رجعتم} إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج، وفيه التفات عن الغيبة: {تلك عشَرَة كاملة} جملة تأكيد لما قبلها.
{ذلك} الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع: {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي، فإن كان فلا دمَ عليه ولا صيام وإن تمتع.
وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان، فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن أو تمتع فعليه ذلك، وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني: لا، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن وهو من أحرم بالعمرة والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف: {واتقوا الله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه: {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن خالفه. (تفسير الجلالين).
دعواتــــــــــــــــــــــــــــــــكم
الكـاتب : خالد سعد النجار
المختار الإسلامي
تزخر (آيات الحج) في كتاب ربنا العظيم بالعديد من الروائع التشريعية، والمعاني الإيمانية، وفي نفس الوقت أثيرت حولها عدد من الإشكالات التي تصدى لها مفسرينا -رحمة الله عليهم-، فأزالوا ما علق بها من غبش، وأصلوا منها أصولاً فقهية تتناغم مع روح الشريعة الإسلامية، حتى غدت تلك الإشكالات فرصة عظيمة لبيان روائع الشريعة، وبراعة مفسرينا الأجلاء الذين تباروا في خدمة هذا الدين، وبيان روعة كتاب رب العالمين.
- قال -تعالى-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
والاستطاعة وردت مطلقة، وفسرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بالزاد والراحلة، لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها، فإن المريض، والخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزمن، وكل من تعذر عليه والوصول، فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج، وإن كان واجداً للزاد والراحلة (أحكام القرآن للكيا الهراسى: 2/11).
وللعلماء في تفسير "السبيل" أقوال اختلفت ألفاظها، واتحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتًا في كتب التفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدًا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: "السبيل القدرة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم". واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: "إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه"، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة. (التحرير والتنوير: 3/167).
- وقال -تعالى-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
قال ابن كثير: "قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيًا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبًا، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم.."، وعن ابن عباس، قال: "ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيًا؛ لأن الله يقول: {{c}{c}يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ{c}{c}}" [الحج: 27].. والذي عليه الأكثرون: أن الحج راكبًا أفضل، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه حج راكبًا مع كمال قوته -صلى الله عليه وسلم-. (تفسير ابن كثير: 5/414 بتصرف).
قال الشنقيطي: المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي.
وضابطه: أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها، ولكنه وقع متعلقًا بعبادة بأن وقع فيها، أو في وسيلتها كالركوب في الحج، فإن ركوبه -صلى الله عليه وسلم- في حجه محتمل للجبلة، لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب، كما كان يركب -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب، بل لاقتضاء الجبلة إياه.
ومحتمل للشرعي لأنه -صلى الله عليه وسلم- فعله في حال تلبسه بالحج وقال: «خذوا عني مناسككم» (صحيح الجامع).
ومن فروع هذه المسألة: جلسة الاستراحة في الصلاة، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير الذي ذهب فيها إلى صلاة العيد.
والضجعة على الشق الأيمن بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ودخول مكة من كداء بالفتح والمد، والخروج من كدى بالضم والقصر.
والنزول بالمحصب بعد النفر من مِنًى ونحو ذلك.. ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم لاحتمالها للجبلي والتشريعي.
ومشهور مذهب مالك: أن الركوب في الحج أفضل، إلا في الطواف والسعي، فالمشي فيهما واجب. وقال سند واللخمي من المالكية: "إن المشي أفضل للمشقة، وركوبه -صلى الله عليه وسلم- جبلي لا تشريعي".
وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي، هو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما (أضواء البيان: 4/268 بتصرف). وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي: {يَأْتُوكَ..} [الحج: 27] فالجميع حريص على أداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشيًا (تفسير الشعراوي: 1/6021).
وعن مالك كراهية السفر في البحر للحج إلا لمن لا يجد طريقًا غيره كأهل الأندلس، واحتج بأن الله -تعالى- قال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولم أجد للبحر ذكرًا.
قال الشيخ ابن عطية: هذا تأنيس من مالك، وليست الآية بالتي تقتضي سقوط سفر البحر.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ناس من أمتي عرضوا علي، غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر» (رواه البخاري)، وهل الجهاد إلا عبادة كالحج، وكره مالك للمرأة السفر في البحر لأنه كشفة لها، وكل هذا إذا كانت السلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البر إلا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار. (التحرير والتنوير: 3/167).
خاصة وأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب، فذكر -تعالى- ما يتوصل به إليها. (البحر المحيط: 8/224)
- وقال -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
أي وقت الحج أشهر معلومات، وهي: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. (تفسير الخازن: 1/180)، قال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة.. واحتج النخعي بقوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] إذ جعل جميع مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج، بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيؤقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة. (التحرير والتنوير: 1/555).
قال ابن عاشور: واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير الكشاف، وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم، وقال: "من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل" فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلاً: بماذا فسرت قوله -تعالى-: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]؟ وأنه وجم لها. وأنا أحسب -إن صحت هذه الحكاية- أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج، ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال، فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى. (التحرير والتنوير: 1/557).
وقوله -تعالى-: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة، وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح، كلبسه الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن، لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة.( تفسير البيضاوي: 1/482).
- وقال -تعالى-: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى، فيكون متحللاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين:
الأول: أن الآية الكريمة التي هي قوله -تعالى-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، نزلت في صد المشركين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء. وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو، الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه؛ وروي عن مالك -رحمه الله- أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعية، وهو خلاف قول الجمهور.. وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى، وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز.
الأمر الثاني: ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في (مسنده)، والبيهقي عن ابن عباس أنه قال: "لا حصر إلا حصر العدو" (أضواء البيان: 1/77 بتصرف).
ومعنى الآيات: {{c}{c}وأتموا الحج والعمرة لله{c}{c}} أدوهما بحقوقهما: {{c}{c}فإن أُحصِرتم{c}{c}} منعتم عن إتمامها بعدو: {{c}{c}فما استيسر{c}{c}} تيسر: {{c}{c}من الهدي{c}{c}} عليكم وهو شاة: {{c}{c}ولا تحلقوا رؤوسكم{c}{c}} أي لا تتحللوا: {{c}{c}حتى يبلغ الهدي{c}{c}} المذكور: {{c}{c}محله{c}{c}} حيث يحل ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويُفَرَّق على مساكينه ويحلق وبه يحصل التحلل: {{c}{c}فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه{c}{c}} كقمل وصداع فحلق في الإحرام: {{c}{c}ففدية{c}{c}} عليه: {{c}{c}من صيام{c}{c}} الثلاثة أيام: {{c}{c}أو صدقة{c}{c}} بثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين: {{c}أو نسك} أي ذبح شاة و (أو) للتخيير وألحق به من حلق لغير عذر لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره: {فإذا أمنتم} العدو بأن ذهب أو لم يكن: {فمن تمتع} استمتع: {بالعمرة} أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام: {إلى الحج} أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره: {فما استيسر} تيسر: {من الهدي} عليه وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به والأفضل يوم النحر: {فمن لم يجد} الهدي لفقده أو فقد ثمنه: {فصيام} أي فعليه صيام: {ثلاثة أيام في الحج} أي في حال الإحرام به، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي: {وسبعة إذا رجعتم} إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج، وفيه التفات عن الغيبة: {تلك عشَرَة كاملة} جملة تأكيد لما قبلها.
{ذلك} الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع: {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي، فإن كان فلا دمَ عليه ولا صيام وإن تمتع.
وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان، فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن أو تمتع فعليه ذلك، وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني: لا، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن وهو من أحرم بالعمرة والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف: {واتقوا الله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه: {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن خالفه. (تفسير الجلالين).
دعواتــــــــــــــــــــــــــــــــكم